فصل: تفسير الآيات (138- 140):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (132- 135):

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}
قوله عز وجل: {ووصى بها إبراهيم بنيه} يعني بكلمة الإخلاص، وهي لا إله الاّ الله. وقيل هي الملة الحنيفية وكان لإبراهيم ثمانية أولاد إسماعيل وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة ومدين ومدان ويقنان وزمران وشيق وشوخ وأمهم قطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم حين وفاة سارة، فإن قلت، لم قال: وصى بها إبراهيم بنيه ولم يقل أمرهم؟. قلت: لأن لفظ الوصية أوكد من لفظ الأمر لأن الوصية إنما تكون عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لولده أشد وأعظم، وكانوا هم إلى قبول وصيته أقرب وإنما خص بنيه بهذه الوصية لأن شفقة الرجل على بنيه أكثر من شفقته على غيرهم. وقيل: لأنهم كانوا أئمة يقتدى بهم فكان صلاحهم صلاحاً لغيرهم {ويعقوب} أي ووصى يعقوب بمثل ما وصي به إبراهيم، وسمي يعقوب لأنه هو والعيص كانا توأمين في بطن واحد فتقدم العيص وقت الولادة في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذاً بعقبه قال ابن عباس: وقيل سمي لكثرة عقبه وكان له من الولد اثنا عشر وهم: روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وربالون ويشجرودان ونفتالى وجاد وآشر ويوسف وبنيامين، ثم خاطب يعقوب بنيه فقال {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين} أي اختار لكم دين الإسلام {فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون} أي مؤمنون مخلصون فالمعنى دوموا على إسلامكم حتى يأتيكم الموت وأنتم مسلمون لأنه لا يعلم في أي وقت يأتي الموت على الإنسان. وقيل: في معنى وأنتم مسلمون أي محسنون الظن بالله عز وجل يدل عليه ما روي عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بربه» أخرجاه في الصحيحين. قوله عز وجل: {أم كنتم شهداء} جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين {إذ حضر يعقوب الموت} أي حين احتضر وقرب من الموت نزلت في اليهود، وذلك لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فأنزل الله تعالى هذه الاية تكذيباً لهم، والمعنى أم كنتم يا معشر اليهود شهوداً على يعقوب إذ حضره الموت، أي إنكم لم تحضروا ذلك فلا تدّعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل وتنسبوهم إلى اليهودية فإني ما ابتعثت خليلي إبراهيم، وولده وأولادهم إلاّ بدين الإسلام، وبذلك وصوا أولادهم وبه عهدوا إليهم ثم بين ما قال يعقوب لبنيه فقال تعالى: {إذ قال} يعني يعقوب {لبنيه} يعني لأولاده الاثني عشر {ما تعبد ون} أي أي شيء تعبد ون {من بعدي} قيل إن الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره: بين الحياة والموت، فلما خير يعقوب وكان قد رأى أهل مصر يعبد ون الأوثان والنيران فقال انظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم فأمهله فجمع ولده وولد ولده قال لهم قد حضر أجلي من تعبد ون من بعدي؟ {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} إنما قدم إسماعيل لأنه كان أكبر من إسحاق وأدخله في جملة الآباء وإن كان عماً لهم لأن العرب تسمي العم أباً والخالة أمّاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه» وقال في عمه العباس «ردوا عليّ أبي» {إلهاً واحداً ونحن له مسلمون} أي مخلصون العبودية {تلك} إشارة إلى الأمة المذكورة، يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم {أمة قد خلت} أي مضت لسبيلها والمعنى يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والمسلمين من أولادهم، ولا تقولوا عليهم ما ليس فيهم {لها ما كسبت} يعني من العمل {ولكم} يعني يا معشر اليهود والنصارى {ما كسبتم} أي من العمل {ولا تسألون عما كانوا يعملون} يعني كل فريق يسأل عن عمله لا عن عمل غيره. قوله عز وجل: {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا} قال ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى نجران السيد، والعاقب وأصحابهما، وذلك أنهم خاصموا المؤمنين في الدين، فكل فريق منهم يزعم أنه أحق بدين الله فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن وقالت النصارى كذلك، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كانوا على ديننا فلا دين إلاّ ذلك فأنزل الله عز وجل: {قل} يعني يا محمد {بل ملة إبراهيم} يعني إذا كان لابد من الاتباع فنتبع ملة إبراهيم لأنه مجمع على فضله {حنيفاً} أصله من الحنف وهو ميل واعوجاج يكون في القدم، قال ابن عباس: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، قال الشاعر:
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ** حنيفاً ديننا عن كل دين

والعرب تسمي كل من حج أو اختتن حنيفاً تنبيهاً على أنه على دين إبراهيم، وقيل: الحنيفية الختان وإقامة المناسك مسلماً، يعني أن الحنيفية هي دين الإسلام وهو دين إبراهيم عليه السلام {وما كان من المشركين} يعني إبراهيم وفيه تعريض لليهود والنصارى وغيرهم ممن يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك، ثم علم المؤمنين طرائق الإيمان.

.تفسير الآيات (136- 137):

{قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
فقال تعالى: {قولوا آمنا بالله} يعني قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا: آمنا بالله أي صدقنا بالله {وما أنزل إلينا} يعني القرآن {وما أنزل إلى إبراهيم} يعني وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم وهو عشر صحائف {وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر واحدهم سبط وكانوا أنبياء، وقيل: السبط هو ولد الولد وهو الحافد ومنه قيل: للحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من بني إسماعيل وكان في الأسباط أنبياء {وما أوتي موسى} يعني التوراة {وعيسى} يعني الإنجيل {وما أوتي النبيون من ربهم} والمعنى آمنا أيضاً بالتوراة والإنجيل والكتب التي أوتي جميع النبيين وصدقنا أن ذلك كله حق وهدى ونور وأن الجميع من عند الله وأن جميع ما ذكر الله من أنبيائه كانوا على هدى وحق {لا نفرق بين أحد منهم} أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض وكما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وأقرت ببعض الأنبياء وكما تبرأت النصارى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرت ببعض الأنبياء بل نؤمن بكل الأنبياء وأن جميعهم كانوا على حق وهدى {ونحن له مسلمون} أي ونحن لله تعالى خاضعون بالطاعة مذعنون له بالعبودية.
(خ) عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم».
{وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}. الآية. قوله عز وجل: {فإن آمنوا} يعني اليهود والنصارى {بمثل ما آمنتم به} أي بما آمنتم به ومثل صلة فهو كقوله: {ليس كمثله شيء} أي ليس مثله شيء وقيل: فإن أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم {فقد اهتدوا} والمعنى إن حصلوا ديناً آخر يساوي هذا الدين في الصحة، والسداد فقد اهتدوا ولكن لما استحال ان يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصحة والسداد استحال الاهتداء بغيره لأن هذا الدين مبناه على التوحيد والإقرار بكل الأنبياء وما أنزل إليهم وقيل معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا {وإن تولوا} أي أعرضوا {فإنما هم في شقاق} أي في خلاف ومنازعة وقيل: في عداوة ومحاربة وقيل: في ضلال، وأصله من الشق كأنه صار في شق صاحبه بسبب عداوته وقيل هو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه {فسيكفيكهم الله} أي يكفيك الله يا محمد شر اليهود والنصارى وهو ضمان من الله تعالى لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا تكفلّ بشيء أنجزه وهو إخبار بغيب نفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أنجز الله وعده بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى {وهو السميع} لأقوالهم {العليم} بأحوالهم يسمع جميع ما ينطقون به، ويعلم جميع ما يضمرون من الحسد، والغل وهو مجازيهم، ومعاقبهم عليه.

.تفسير الآيات (138- 140):

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
قوله عز وجل: {صبغة الله} قال ابن عباس: دين الله وإنما سماه الله صبغة لأن أثر الدين يظهر على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب وقيل: فطرة الله وقيل: سنة الله وقيل: أراد به الختان لأنه يصبغ المختتن بالدم قال ابن عباس: إن النصارى إذا ولد لأحدهم مولود وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يسمونه ماء المعمودية وصبغوه به ليطهروه به مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك به قالوا الآن صار نصرانياً حقاً، فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما تفعله النصارى {ومن أحسن من الله صبغة} أي ديناً وقيل تطهيراً لأنه يطهر من أوساخ الكفر {ونحن له عابدون} أي مطيعون {قل} يعني يا محمد لليهود والنصارى الذين قالوا إن دينهم خير من دينكم وأمروكم باتباعهم {أتحاجوننا في الله} أي أتخاصموننا وتجادلوننا في دين الله الذي أمرنا أن نتدين به والمحاجة المجادلة لأظهار الحجة، وذلك أنهم قالوا: إن ديننا أقدم من دينكم وإن الأنبياء منا وعلى ديننا فنحن أولى بالله منكم، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا لهم: أتحاجوننا في الله {وهو ربنا وربكم} أي ونحن وأنتم في الله سواء فإنه ربنا وربكم {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} يعني أن لكل أحد جزاء عمله {ونحن له مخلصون} أي مخلصوا الطاعة والعبادة له وفيه توبيخ لليهود والنصارى والمعنى وأنتم به مشركون. والأخلاص أن يخلص العبد دينه، وعمله لله تعالى فلا يشرك في دينه ولا يرائي بعمله، قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما وهذا الآية منسوخة بآية السيف. قوله عز وجل: {أم تقولون} يعني اليهود والنصارى وهو استفهام ومعناه التوبيخ {إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى} يعني أتزعمون أن إبراهيم وبنيه كانوا على دينكم وملتكم وإنما حدثت اليهودية والنصرانية بعدهم فثبت كذبكم يا معشر اليهود والنصارى على إبراهيم وبنيه {قل} يا محمد {أأنتم أعلم} يعني بدينهم {أم الله} أي الله أعلم بذلك. وقد أخبر أن إبراهيم وبنيه لم يكونوا على اليهودية والنصرانية ولكن كانوا مسلمين حنفاء {ومن أظلم ممن كتم} يعني أخفى {شهادة عنده من الله} وهي علمهم بأن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن محمداً أحق بنعته وصفته وجدوا ذلك في كتبهم وكتموه وجحدوه، والمعنى ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فكتمها وأخفاها {وما الله بغافل عما تعملون} يعني من كتمانكم الحق فيما ألزمكم به في كتابه من أن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين حنفاء. وأن الدين هو الإسلام لا اليهودية والنصرانية، والمعنى وما الله غافل من عملكم بل هو محصية عليكم ثم يعاقبكم عليه في الآخرة.

.تفسير الآيات (141- 143):

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
{تلك أمة قد خلت} يعني إبراهيم وبنيه {لها ما كسبت} أي جزاء ما كسبت {ولكم ما كسبتم} أي جزاء ما كسبتم {ولا تسألون عما كانوا يعملون} يعني أن كل إنسان إنما يسأل يوم القيامة عن كسبه وعمله لا عن كسب غيره وعمله، وفيه وعظ وزجر لليهود ولمن يتكل على فضل الآباء، وشرفهم أي لا تتكلوا على فضل الآباء فكل يؤخذ بعمله وإنما كررت هذه الآية لأنه إذا اختلف مواطن الحجاج، والمجادلة حسن تكريره للتذكير به وتأكيده. وقيل: إنما كرره تنبيهاً لليهود لئلا يغتروا بشرف آبائهم. قوله عز وجل: {سيقول السفهاء من الناس} أي الجهال من الناس والسفه خفة في النفس لنقصان العقل في الأمور الدينية والدنيوية، ولا شك أن ذلك في باب الدين أعظم لأن العادل عن الأمر الواضح في أمر دنياه يعد سفيهاً، فمن كان كذلك في أمر دينه، كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلاّ وهو سفيه ولهذا أمكن حمل هذا اللفظ على اليهود والمشركين، والمنافقين فقيل: نزلت هذه الآية في اليهود وذلك أنهم طعنوا في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة لأنهم لا يرون النسخ. وقيل: نزلت في مشركي مكة وذلك أنهم قالوا قد تردد على محمد أمره واشتاق مولده، وقد توجه إلى نحو بلدكم فلعله يرجع إلى دينكم وقيل نزلت في المنافقين وإنما قالوا ذلك استهزاء بالإسلام وقيل: يحتمل أن لفظ السفهاء للعموم فيدخل فيه جميع الكفار والمافقين واليهود ويحتمل وقوع هذا الكلام من كلهم إذ لا فائدة في التخصيص، ولأن الأعداء يبالغون في الطعن والقدح فإذا وجدوا مقالاً قالوا أو مجالاً جالوا {ما ولاهم} يعني أي شيء صرفهم {عن قبلتهم التي كانوا عليها} يعني بيت المقدس، والقبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان وإنما سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله ولما قال السفهاء ذلك رد الله تعالى بقوله: {قل} يا محمد {لله المشرق والمغرب} يعني أن له قطري المشرق والمغرب وما بينهما ملكاً فلا يستحق شيء أن يكون لذاته قبلة لأن الجهات كلها شيء واحد، وإنما تصير قبلة لأن الله تعالى هو الذي جعلها قبلة فلا اعتراض عليه وهو قوله: {يهدي من يشاء} يعني من عباده {إلى صراط مستقيم} يعني إلى جهة الكعبة وهي قبلة إبراهيم عليه السلام. قوله عز وجل: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} الكاف في قوله وكذلك كاف التشبيه جاء لمشبه به وفيه وجوه أحدها أنه معطوف على ما تقدم من قوله في حق إبراهيم: ولقد اصطفيناه في الدنيا، وكذلك جعلناكم أمة وسطاً الثاني أنه معطوف على قوله: {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} وكذلك هديناكم وجعلنا قبلتكم وسطاً بين المشرق والمغرب كذلك جعلناكم أمة وسطاً يعني عدولاً خياراً، وخير الأمور أوسطها، قال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وقيل: متوسطة والمعنى أهل دين وسط بين الغلو والتقصير، لأنهما مذمومان في أمر الدين لا كغلو النصارى في عيسى، ولا كتقصير اليهود في الدين وهو تحريفهم وتبديلهم. وسبب نزول هذه الآية أن رؤساء اليهود قالوا لمعاذ بن جبل: ما ترك محمد قبلتنا إلاّ حسداً وإن قبلتنا قبلة الأنبياء ولقد علم محمد أنّا اعدل الناس فقال معاذ: إنا على حق وعدل فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها، وخيرها وأكرمها على الله تعالى» وقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} يعني يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم، وقيل: إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين {ويكون الرسول} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {عليكم شهيداً} يعني عدلاً مزكياً لكم وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير فينكرون ويقولون ما جاءنا من نذير فيسأل الله الأنبياء عن ذلك فيقولون: كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة الحجة فيقولون أمة محمد تشهد لنا فيؤتى بأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فيشهدون لهم بأنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية من أين علموا وإنما أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة. فيقولون: أرسلت إلينا رسولاً وأنزلت عليه كتاباً أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم.
(خ) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول نعم أي رب فيسأل أمته هل بلغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} زاد الترمذي: «وسطاً عدولاً».
قوله عز وجل: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} أي وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها، وهي بيت المقدس، وإنما حذف ذكر الصرف اكتفاء بدلالة اللفظ عليه، وقيل: معناه وما جعلنا التي كنت عليها منسوخة وقيل: معناه وما جعلنا القبلة التي كنت عليها وهي الكعبة و{إلاّ لنعلم من يتبع الرسول} فإن قلت ما معنى قوله: {إلاّ لنعلم} وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها قلت: أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد.
والمعنى لنعلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب، وقيل: العلم هنا بمعنى الرؤية أي لنرى ونميز الرسول في القبلة ممن ينقلب علي عقبيه وقيل: معناه إلاّ لتعلم رسلي وحزبي وأوليائي من المؤمنين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وكان من شان العرب إضافة ما فعله الاتباع إلى الكبير. كقولهم: فتح عمر العراق وجبى خراجها وإنما فعل ذلك أتباعه عن أمره، وقيل إنما قال إلاّ لنعلم وهو بذلك عالم قبل كونه على وجه الرفق بعباده ومعناه إلاّ لتعلموا، أنتم إذ كنتم جهالاً به قبل كونه بإضافة العلم إلى نفسه رفقاً بعباده المخاطبين. وقيل: معناه لعلمنا لأنه تعالى سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة آخرين ومعنى من يتبع الرسول أي يطيعه في أمر القبلة وتحويلها {ممن ينقلب على عقبيه} اي يرجع إلى ما كان عليه من الكفر فيرتد، وفي الحديث «إنه لما تحولت القبلة إلى الكعبة ارتد قوم إلى اليهودية وقالوا رجع محمد إلى دين آبائه» {وإن كانت} أي وقد كانت {لكبيرة} يعني تولية القبلة ثقيلة شاقة وقيل هي التولية من بيت المقدس إلى الكعبة وقيل الكبيرة هي القبلة التي وجهه إليها قيل التحويل وهي بيت المقدس، وأنث الكبيرة لتأنيث القبلة وقيل: لتأنيث التولية {إلا على الذين هدى الله} يعني الصادقين في اتباع الرسول {وما كان الله ليضيع إيمانكم} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى فقد تحولتم عنه وإن كانت على ضلاله فقد دنتم الله بها مدة، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة فقال المسلمون: إنما الهدى فيما أمر الله به والضلالة نهى الله عنه قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة أسعد بن زرارة من بني النجار والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} يعني لا يضيع أجورهم، والرأفة أخص من الرحمة وأرق، وقيل: الرأفة أشد من الرحمة. وقيل الرأفة والرحمة وقيل: في الفرق بين الرأفة والرحمة. أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي دفع المكروه وإزالة الضرر وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه أيضاً جميع الإفضال والإنعام فذكر الله الرأفة، ولا بمعنى أنه لا نضيع أعمالهم ثم ذكر الرحمة ثانياً لأنها أعم وأشمل.